الحديث الأول: الأعمال بالنيات . . .
المتن :
عن أمـيـر المؤمنـين أبي حـفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقـول: { إنـما الأعـمـال بالنيات وإنـمـا لكـل امـرئ ما نـوى، فمن كـانت هجرته إلى الله ورسولـه فهجرتـه إلى الله ورسـوله، ومن كانت هجرته لـدنيا يصـيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه }.
[رواه إمام المحد ثين أبـو عـبـد الله محمد بن إسماعـيل بن ابراهـيـم بن المغـيره بن بـرد زبه البخاري الجعـفي:1، وأبـو الحسـيـن مسلم بن الحجاج بن مـسلم القـشـيري الـنيسـابـوري:1907 رضي الله عنهما في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة].
الشرح :
هذا الحديث أصل عظيم في أعمال القلوب؛ لأن النيات من أعمال القلوب، قال العلماء: ( وهذا الحديث نصف العبادات )؛ لأنه ميزان الأعمال الباطنة وحديث عائشة رضي الله عنها: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } وفي لفظ آخر: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } نصف الدين؛ لأنه ميزان الأعمال الظاهرة فيستفاد من قول النبي : { إنما الأعمال بالنيات } أنه ما من عمل إلا وله نية؛ لأن كل إنسان عاقل مختار لا يمكن أن يعمل عملاً بلا نية، حتى قال بعض العلماء: ( لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق ) ويتفرع على هذه الفائدة:
الرد على الموسوسين الذين يعملون الأعمال عدة مرات، ثم يقول لهم الشيطان: إنكم لم تنووا. فإننا نقول لهم: لا، لا يمكن أبداً أن تعملوا عملاً إلا بنية فخففوا على أنفسكم ودعوا هذه الوساوس.
ومن فوائد هذا الحديث أن الإنسان يؤجر أو يؤزر أو يحرم بحسب نيته لقول النبي : { فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله }.
ويستفاد من هذا الحديث أيضاً أن الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل يكون طاعة إذا نوى به الإنسان خيراً، مثل أن ينوي بالأكل والشرب التقوي على طاعة الله؛ ولهذا قال النبي : { تسحروا فإن في السحور بركة }.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للمعلم أن يضرب الأمثال التي يتبين بها الحكم، وقد ضرب النبي لهذا مثلاً بالهجرة، وهي الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وبيّن أن الهجرة وهي عمل واحد تكون لإنسان أجراً وتكون لإنسان حرماناً، فالمهاجر الذي يهاجر إلى الله ورسوله هذا يؤجر ويصل إلى مراده، والمهاجر لـدنيا يصـيبها أو امرأة يتزوجها يُحرم من هذا الأجر. وهذا الحديث يدخل في باب العبادات وفي باب المعاملات وفي باب الأنكحة وفي كل أبواب الفقه.
~ ~ ~
الحديث الثاني: مراتب الدين . . .
المتن :
عن عمر أيضاً، قال: بينما نحن جلوس عـند رسـول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثـر السفر، ولا يعـرفه منا أحـد، حتى جـلـس إلى النبي فـأسند ركبـتيه إلى ركبتـيه ووضع كفيه على فخذيه، وقـال: ( يا محمد أخبرني عن الإسلام ).
فقـال رسـول الله : { الإسـلام أن تـشـهـد أن لا إلـه إلا الله وأن محـمـداً رسـول الله، وتـقـيـم الصلاة، وتـؤتي الـزكاة، وتـصوم رمضان، وتـحـج البيت إن اسـتـطـعت إليه سبيلاً }.
قال: ( صدقت )، فعجبنا له، يسأله ويصدقه؟ قال: ( فأخبرني عن الإيمان ).
قال: { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره }.
قال: ( صدقت ). قال: ( فأخبرني عن الإحسان ).
قال: { أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك }.
قال: ( فأخبرني عن الساعة ).
قال: { ما المسؤول عنها بأعلم من السائل }.
قال: ( فأخبرني عن أماراتها ).
قال: { أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان }.
ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال: { يا عمر أتدري من السائل ؟ }.
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: { فإنه جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم }.
[رواه مسلم:8].
الشرح :
هذا الحديث يستفاد منه فوائد:
منها أن من هدي النبي مجالسة أصحابه وهذا الهدي يدل على حسن خلق النبي , ومنها أنه ينبغي للإنسان أن يكون ذا عِشرة من الناس ومجالسة وأن لاينزوي عنهم.
ومن فوائد الحديث: أن الخلطة مع الناس أفضل من العزلة ما لم يخش الإنسان على دينه, فإن خشي على دينه فالعزلة أفضل, لقول النبي : { يوشك أن يكون خيرُ مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر }.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام يمكن أن يظهروا للناس بأشكال البشر؛ لأن جبريل عليه الصلاة والسلام طلع على الصحابة على الوصف المذكور في الحديث رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لايرى عليه أثر السفر ولا يعرفه من الصحابة أحد.
ومن فوائد الحديث: حُسن أدب المتعلم أما المعلم حيث جلس جبريل عليه الصلاة والسلام أمام النبي هذه الجلسة الدالة على الأدب والإصغاء والاستعداد لما يلقى إليه فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه.
منها: جواز دعاء النبي باسمه لقوله: ( يا محمد ) وهذا يحتمل أنه قبل النهي أي قبل نهي الله تعالى عن ذلك في قوله: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63] على أحد التفسيرين ويحتمل أن هذا جرى على عادة الأعراب الذين يأتون إلى الرسول فينادونه باسمه يا محمد وهذا أقرب؛ لأن الأول يحتاج إلى التاريخ.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز سؤال الإنسان عما يعلم من أجل تعليم من لا يعلم؛ لأن جبريل كان يعلم الجواب, لقوله في الحديث: { صدقت }.
ولكن إذا قصد السائل أن يتعلم من حول المجيب فإن ذلك يعتبر تعليماً لهم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن المتسبب له حكم المباشر إذا كانت المباشرة مبنية على السبب؛ لقول النبي : { هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } مع أن المعلم هو الرسول لكن لما كن جبريل هو السبب لسؤاله جعله الرسول عليه الصلاة والسلام هو المعلم.
ومن فوائد هذا الحديث: بيان أن الإسلام له خمسة أركان؛ لأن النبي أجاب بذلك وقال: { الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً }.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بد أن يشهد الإنسان شهادة بلسانه موقناً بها بقلبه أن لا إله إلا الله فمعنى ( لا إله ) أي: لا معبود حق إلا الله، فتشهد بلسانك موقناً بقلبك أنه لا معبود من الخلق من الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشجر أو الحجر أو غير ذلك حق إلا الله وأن ما عُبد من دون الله فهو باطل لقول الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].
ومن فوائد هذا الحديث: أن هذا الدين لا يكمل إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، وهو محمد بن عبدالله القرشي الهاشمي, ومن أراد تمام العلم بهذا الرسول الكريم فليقرأ القرآن وما تيسر من السنة وكتب التاريخ.
ومن فوائد هذا الحديث: أن رسول الله جمع شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في ركن واحد، وذلك لأن العبادة لا تتم إلا بأمرين الإخلاص لله وهو ما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله والمتابعة لرسول الله وهو ما تتضمنه شهادة أن محمداً رسول الله؛ ولهذا جعلهما النبي ركناً واحداً في حديث ابن عمر حيث قال: { بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة … } وذكر تمام الحديث.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يتم إسلام العبد حتى يقيم الصلاة, وإقامة الصلاة أن يأتي بها مستقيمة حسب ما جاءت به الشريعة, ولها – أي لإقامة الصلاة – إقامة واجبة وإقامة كاملة, فالواجبة أن يقتصر على أقل ما يجب فيها.
والكاملة أن يأتي بمكملاتها على حسب ما هو معروف في الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يتم الإسلام إلا بإيتاء الزكاة. والزكاة هي المال المفروض من الأموال الزكوية وإيتاؤها وإعطاؤها من يستحقها، وقد بيّن الله ذلك في سورة التوبة في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
وأما صوم رمضان فهو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ورمضان هو الشهر الذي بين شعبان وشوال.
وأما حج البيت فهو القصد إلى مكة لأداء المناسك, وقُيّد بالإستطاعة؛ لأن الغالب فيه المشقة، وإلا فجميع الواجبات يشترط لوجوبها الإستطاعة لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
ومن القواعد المقررة عند العلماء ( أنه لا واجب مع عجز ولا محرم مع الضرورة ).
ومن فوائد هذا الحديث: وصف الرسول الملكي للرسول البشري محمد بالصدق، ولقد صدق جبريل فيما وصفه بالصدق فإن النبي أصدق الخلق.
ومن فوائد الحديث: ذكاء الصحابة رضي الله عنهم حيث تعجبوا كيف يصدق السائل من سأله، والأصل أن السائل جاهل والجاهل لا يمكن أن يحكم على الكلام بالصدق أو الكذب، لكن هذا العجب زال حين قال النبي : { هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم }.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإيمان يتضمن ستة أمور: وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره.
ومن فوائد الحديث: التفريق بين الإسلام والإيمان، وهذا عند ذكرهما جميعاً فإنه يفسر الإسلام بأعمال الجوارح والإيمان بأعمال القلوب ولكن عند الإطلاق يكون كل واحد منها شاملاً للآخر فقوله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً [المائدة:3] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً [آل عمران:85] يشمل الإسلام والإيمان وقول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19] وما أشبهها من الآيات يشمل الإيمان والإسلام وكذلك قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] يشمل الإسلام والإيمان.
ومن فوائد هذا الحديث العظيم: أن الإيمان بالله أهم أركان الإيمان وأعظمها ولهذا قدمه النبي فقال: { أن تؤمن بالله }.
والإيمان يتضمن الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ليس هو الإيمان بمجرد وجوده بل لا بد أن يتضمن الإيمان هذه الأمور الأربعة: الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
ومن فوائد هذا الحديث العظيم: إثبات الملائكة والملائكة عالم غيبي وصفهم الله تعالى بأوصاف كثيرة في القرآن ووصفهم النبي في السنة وكيفية الإيمان بهم: أن نؤمن بأسماء من عيّنت أسماؤهم منهم ومن لم يعين لأسمائهم فإننا نؤمن بهم إجمالاً ونؤمن كذلك بما ورد من أعمالهم التي يقوموه بها ما علمنا منها، ونؤمن كذلك بأوصافهم التي وصفوا بها ما علمنا بها، ومن ذلك أن النبي رأى جبريل عليه الصلاة والسلام وله ستمائة جناح قد سد بها الأفق على خلقته التي خلق عليها.
وواجبنا نحو الملائكة أن نصدق بهم وأن نحبهم لأنهم عباد الله قائمون بأمره كمال قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20،19].
ومن فواد هذا الحديث: وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عزوجل على رسله عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25].
فنؤمن بكل كتاب أنزله الله على رسله لكن نؤمن إجمالاً ونصدق بأنه حق. أما تفصيلاً فإن الكتب السابقة جرى عليها التحريف والتبديل والتغيير فلم يكن للإنسان أن يميّز من الحق منها والباطل وعلى هذا فنقول: نؤمن بما أنزله الله من الكتب على سبيل الإجمال. أما التفصيل فإننا نخشى أن يكون مما حرف وبدل وغير هذا بالنسبة للإيمان بالكتب. أما العمل بها فالعمل إنما هو بما نزل على محمد فقط. أما ما سواه فقد نسخ بهذه الشريعة.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام فنؤمن بأن كل رسول أرسله الله فهو حق، أتى بالحق، صادقٌ فيما أخبر صادق بما أمر به فنؤمن بهم إجمالاً في من لم نعرفه بيعنه وتفصيلا في من عرفناه بيعنه.
قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]. فمن قص علينا وعرفناه آمنا به بيعنه ومن لم يقص علينا ولم نعرفه نؤمن به إجمالاً، والرسل عليهم الصلاة والسلام أولهم نوح وآخرهم محمد ، ومنهم الخمسة أولوا العزم الذين جمعهم الله في آيتين من كتاب الله فقال الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الآية [الأحزاب:7]، وقال تعالى في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا الآية [الشورى:13].
ومن فوائد هذا الحديث: الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر هو يوم القيامة وسمي آخراً، لأنه آخرالمطاف للبشر فإن للبشر أربعة دور:
الدار الأول: بطن أمه … الدار الثاني: هذه الدنيا … والدار الثالث: البرزخ … والدار الرابع: اليوم الآخر، ولا دار بعده فإما إلى جنة أو إلى نار.
والإيمان باليوم الآخر يدخل فيه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( كل ما أخبر به النبي مما يكون بعد الموت فيدخل في ذلك ما يكون في القبر من سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه وما يكون في القبر من نعيم أو عذاب ).
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره وذلك بأن تؤمن بأمور أربعة:
الأول: أن تؤمن أن الله محيط بكل شيء علماً جملةً وتفصيلاً أزلاً وأبداً.
الثاني: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.
الثالث: أن تؤمن بأن كل ما يحدث في الكون فإنه بمشيئة الله عز وجل لا يخرج شيء عن مشيئته.
الرابع: أن تؤمن بأن الله خلق كل شيء، فكل شيء مخلوق لله عزوجل سواء كان من فعله الذي يختص به كإنزال المطر وإخراج النبات أو من فعل العبد وفعل المخلوقات، فإن فعل المخلوقات من خلق الله عزوجل، لأن فعل المخلوق ناشئ من إرادة وقدرة والإرادة والقدرة من صفات العبد. والعبد وصفاته مخلوقة لله عزوجل فكل ما في الكون فهو من خلق الله تعالى.
ولقد قدر الله عز وجل ما يكون إلى يوم القيامة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فما قدر على الإنسان لك يكن ليخطئه وما لم يقدر لك يكن ليصيبه. هذه أركان الإيمان الستة بينها رسول الله ولا يتم الإيمان إلا بالإيمان بها جميعاً. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المؤمنين بها.
ومن فوائد هذا الحديث: بيان الإحسان وهو أن يعبد الإنسان ربه عبادة رغبة وطلب كأنه يراه فيحب أن يصل إليه، وهذه الدرجة من الإحسان الأكمل، فإن لم يصل إلى هذه الحال فإلى الدرجة الثانية: أن يعبد الله عبادة خوف وهرب من عذابه ولذلك قال النبي : { فإن لم تكن تراه فإنه يراك } أي فإن لم تعبده كأنك تراه فإنه يراك.
ومن فوائد هذا الحديث العظيم: أن علم الساعة مكتوم لا يعلمه إلا الله عزوجل فمن ادعى علمه فهو كاذب، وهذا كان خافياً على أفضل الرسل من الملائكة جبريل عليه الصلاة السلام وأفضل الرسل من البشر محمد عليه الصلاة السلام.
ومن فوائد هذا الحديث: أن للساعة أشراطاً أي علامات كمال قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون [الزخرف:66] … أي علاماتها، وقسّم العلماء علامات الساعة إلى ثلاثة أقسام:
قسم مضى وقسم لا يزال يتجدد، وقسم لا يأتي إلا قرب قيام الساعة تماماً وهي الأشراط الكبرى العظمى كنزول عيسى ابن مريم عليه السلام والدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها.
وقد ذكر النبي من أماراتها أن تلد الأمة ربتها يعني أن تكون المرأة أمة فتلد امرأة فتكون هذه المرأة غنية تملك مثل أمها وهو كناية عن سرعة كثرة المال وانتشاره بين الناس ويؤيد ذلك المثل الذي بعده { وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان }.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي حيث استفهم الصحابة هل يعلمون هذا السائل أم لا؟ من أجل أن يعلمهم به وهذا أبلغ مما لو علمهم ابتداء، لأنه إذا سألهم ثم علمهم كان ذلك أدعى لوعي ما يقول وثبوته.
ومن فوائد هذا الحديث العظيم: أن السائل عن العلم يعتبر معلماً وسبقت الإشارة إلى هذا لكن أريد أن أبين أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عما يحتاجه ولو كان عالماً به من أجل أن ينال أجر التعليم. والله الموفق.
~ ~ ~
الحديث الثالث: أركان الإسلام . . .
المتن :
عن أبي عـبد الرحمن عبد الله بن عـمر بـن الخطاب رضي الله عـنهما، قـال: سمعت رسول الله يقـول: { بـني الإسـلام على خـمـس: شـهـادة أن لا إلـه إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيـتـاء الـزكـاة، وحـج البيت، وصـوم رمضان }.
[رواه البخاري:8، ومسلم:16].
الشرح :
هذا الحديث بين فيه النبي أن الإسلام بمنزلة البناء الذي يظلل صاحبه ويحميه من الداخل والخارج، وبيّن فيه النبي أنه بني على خمس أركان: { شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان } وقد تقدم الكلام على كل هذه الأركان في حديث عمر بن الخطاب الذي قبل هذا فليرجع إليه.
سؤال: ما فائدة إيراد هذا الحديث مرة أخرى مع أنه ذكر في سياق حديث عمر بن خطاب ( الحديث الثاني )؟
الجواب: الفائدة أنه لأهمية هذا الموضوع أراد أن يؤكده مرة ثانية هذا من جهة ومن جهة أخرى أن في حديث عبدالله بن عمر التصريح بأن الإسلام بني على هذه الأركان الخمسة أما حديث عمر بن الخطاب فليس بهذه الصيغة وإن كان ظاهره يفيد ذلك، لأنه قال: { الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. } إلخ.
~~~
الحديث الرابع: مراحل الخلق . . .
المتن :
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعـود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق: { إن أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مـضغـةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويـؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالله الـذي لا إلــه غـيره إن أحــدكم ليعـمل بعمل أهل الجنه حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعـمل بعـمل أهــل النار فـيـدخـلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فــيسـبـق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها }.
[رواه البخاري:3208، ومسلم:2643].
الشرح :
هذا الحديث الرابع من الأحاديث النووية وفيه بيان تطور خلق الإنسان في بطن أمه وكتابه وأجله ورزقه وغير ذلك.
فيقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ( حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق ) الصادق في قوله المصدوق فيما أوحي إليه وإنما قال عبدالله بن مسعود هذه المقدمة، لأن هذا من أمور الغيب التي لا تعلم إلا بوحي فقال: { إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً … الخ }.
ففي هذا الحديث من الفوائد: بيان تطور خلقة الإنسان في بطن أمه، وأنه أربعة أطوار.
الأول: طور النطفة أربعون يوماً … والثاني: طور العلقة أربعون يوماً … والثالث: طور المضغة أربعون يوماً … والرابع: الطور الأخير بعد نفخ الروح فيه.. فالجنين يتطور في بطن أمه إلى هذه الأطوار.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يحكم بأنه إنسان حي، وبناء على ذلك لو سقط قبل تمام أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، لأنه لم يكن إنساناً بعد.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه بعد أربعة أشهر تنفخ فيه الروح ويثبت له حكم الإنسان الحي، فلو سقط بعد ذلك فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه كما لو كان ذلك بعد تمام تسعة أشهر.
ومن فوائد هذا الحديث: أن للأرحام ملكاً موكلاً بها لقوله: { فيبعث إليه الملك } أي الملك الموكل بالأرحام.
ومن فوائد هذا الحديث: أن أحوال الإنسان تكتب عليه وهو في بطن أمه .. رزقه .. عمله .. أجله .. شقي أم سعيد، ومنها بيان حكمة الله عزوجل وأن كل شيء عنده بأجل مقدر وبكتاب لا يتقدم ولا يتأخر.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان يجب أن يكون على خوف ورهبة، لأن رسول الله أخبر { إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي لإنسان أن يقطع الرجاء فإن الإنسان قد يعمل بالمعاصي دهراً طويلاً ثم يمن الله عليه بالهداية فيهتدي في آخر عمره.
فإن قال قائل: ما الحكمة في أن الله يخذل هذا العمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار؟
فالجواب: إن الحكمة في ذلك هو أن هذا الذي يعمل بعمل أهل الجنة إنما يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإلا فهو في الحقيقة ذو طوية خبيثة ونية فاسدة، فتغلب هذه النية الفاسدة حتى يختم له بسوء الخاتمة نعو بالله من ذلك. وعلى هذا فيكون المراد بقوله: { حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع } قرب أجله لا قربه من الجنة بعمله.
~ ~ ~
الحديث الخامس: النهي عن الإبتداع في الدين . . .
المتن :
عن أم المؤمنين أم عبد الله عـائـشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله : { من أحدث في أمرنا هـذا مـا لـيـس مـنه فهـو رد }.
[رواه الـبـخـاري:2697، ومسلم:1718 ].
وفي رواية لمسلم : { مـن عـمـل عـمـلاً لـيـس عـلـيه أمـرنا فهـو رد }.
الشرح :
هذا الحديث قال العلماء: إنه ميزان ظاهر الأعمال وحديث عمر الذي هو في أول الكتاب { إنما الأعمال بالنيات } ميزان باطن الأعمال، لأن العمل له نية وله صورة فالصورة هي ظاهر العمل والنية باطن العمل.
وفي هذا الحديث فوائد: أن من أحدث في هذا الأمر – أي الإسلام – ما ليس منه فهو مردود عليه ولو كان حسن النية، وينبني على هذه الفائدة أن جميع البدع مردودة على صاحبها ولو حسنت نيته.
ومن فوائد هذا الحديث: أن من عمل عملاً ولو كان أصله مشروعاً ولكن عمله على غير ذلك الوجه الذي أمر به فإنه يكون مردوداً بناءً على الرواية الثانية في مسلم.
وعلى هذا فمن باع بيعاً محرماً فبيعه باطل , ومن صلى صلاة تطوع لغير سبب في وقت النهي فصلاته باطلة ومن صام يوم العيد فصومه باطل وهلم جرا، لأن هذه كلها ليس عليها أمر الله ورسوله فتكون باطلة مردودة.
~ ~ ~
الحديث السادس: البعد عن مواطن الشبهات . . .
المتن :
عن أبي عبدالله النعـمان بن بشير رضي الله عـنهما، قـال: سمعـت رسـول الله يقول: { إن الحلال بيّن، وإن الحـرام بيّن، وبينهما أمـور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه، ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله، وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه، ألا وهي الـقـلب }.
[رواه البخاري:52، ومسلم:1599].
قسّم النبي الأمور إلى ثلاثة أقسام:
قسم حلال بيّن لا اشتباه فيه، وقسم حرام بيّن لا اشتباه فيه، وهذان واضحان أما الحلال فحلال ولا يأثم الإنسان به، وأما الحرام فحرام ويأثم الإنسان به.
مثل الأول: حل بهيمة الأنعام … ومثال الثاني: تحريم الخمر.
أما القسم الثالث فهم الأمر المشتبه الذي يشتبه حكمه هل هو من الحلال أم من الحرام؟ ويخفى حكمه على كثير من الناس، وإلا فهو معلوم عند آخرين.
فهذا يقول الرسول الورع تركه وأن لا يقع فيه ولهذا قال: { فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه } استبرأ لدينه فيما بينه وبين الله، واستبرأ لعرضه فيما بينه وبين الناس بحيث لا يقولون: فلان وقع في الحرام، حيث إنهم يعلمونه وهو عند مشتبه ثم ضرب النبي مثلاً لذلك { بالراعي يرعى حول الحمى } أي حول الأرض المحمية التي لا ترعاها البهائم فتكون خضراء، لأنها لم ترعى فيها فإنها تجذب البهائم حتى تدب إليها وترعاها، { كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه } ثم قال عليه الصلاة والسلام: { ألا وأن لكل ملك حمى } يعني بأنه جرت العادة بأن الملوك يحمون شيئاً من الرياض التي يكون فيها العشب الكثير والزرع الكثير { ألا وإن حمى الله محارمه } أي ما حرمه على عباده فهو حماه، لأنه منعهم أن يقعوا فيه ثم بين أن { في الجسد مضغة } يعني لحمة بقدر ما يمضغه الآكل إذا صلحت صلح الجسد كله ثم بينها بقوله: { ألا وهي القلب } وهو إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يراعي ما في قلبه من الهوى الذي يعصف به حتى يقع في الحرام والأمور المشتبهات.
الشرح :
فيستفاد من هذا الحديث:
أولاً: أن الشريعة الإسلامية حلالها بيّن وحرامها بيّن والمشتبه منها يعلمه بعض الناس.
ثانياً: أنه ينبغي للإنسان إذا اشتبه عليه الأمرأحلال هو أم حرام أن يجتنبه حتى يتبيّن له أنه حلال.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا وقع في الأمور المشتبه هان عليه أن يقع في الأمور الواضحة فإذا مارس الشيء المشتبه فإن نفسه تدعوه إلى أن يفعل الشيء البين وحينئذ يهلك.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز ضرب المثل من أجل أن يتبين الأمر المعنوي بضرب الحسي أي أن تشبيه المعقول بالمحسوس ليقرب فهمه.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام بضربه للأمثال وتوضيحها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن المدار في الصلاح والفساد على القلب وينبني على هذه الفائدة أنه يجب على الإنسان العناية بقلبه دائماً وأبداً حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه.
ومن فوائد الحديث: أن فاسد الظاهر دليل على فاسد الباطن لقول النبي : { إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله } ففساد الظاهر عنوان فساد الباطن.