يعدك
تاب الله العزيز من أغنى النصوص السماوية خصوبة، فهو مشحون بكمية هائلة من عناصر
الدراما ومكوناتها، لما يتضمنه من صور ومشاهد مليئة بالحكم والمواعظ والأمثال والقصص، فالصراع بين
الخير والشر، والحق والباطل، والصح والخطأ، والوعيد والتهديد بين الجنة والنار، وغيرها من الصراعات التي
تمنح الإنسان القدرة على تمييز طريق الفضيلة عن طريق الرذيلة، تلك القصص بما تحمله من أمثلة واقعية هي
مواضيع خصبة لتواجد الفعل الدرامي وتطبيقاته.
لا شك في أن (التراجيديا) من أهم مكونات الدراما التي تنسجم مع عظمة القرآن الكريم ومكانته، فهي
ترتبط بالأحداث الكبيرة والشخصيات الراقية والغيبيات التي تحاآي العقل والروح بطريقة سحرية عجيبة،
فحبكتها المنسوجة من الحزن الشفيف تخلق مناخاً حُلمياً يستطيع أن يحوّل تفكير الإنسان ومزاجه من حال إلى
حال آخر.
إن الحزن في قراءة القرآن الكريم هو الوسيلة التي يعتمدها القاريء المقتدر للوصول بالمستمع إلى
الخشوع، وقد أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: " إن أحسن الناس صوتا بالقرآن من إذا سمعته يقرأ
.( حسبته يخشى الله "، في إشارة إلى القراءة بالتحزن ( 28
ا
والخشوع هنا يخلق عند المستمع نوعاً من التطهير الروحي والجسدي، فباجتماع حالات (الحزن
التي تعد من أهم نتائج (Catharsis) والحنين والخوف والشفقة)، يحدث عند المستمع المؤمن حالة التطهير
التراجيديا التي جاءت على وفق تنظيرات الفيلسوف اليوناني (أرسطو) لفن الدراما ودوره في الحياة الاجتماعية
.( والثقافية ( 29
وفي أمثلة القرآن الكريم ورد وصف عظيم للخشوع وآثاره؛ في قوله سبحانه وتعالى
" لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
30 )، فكيف بالإنسان المؤمن بالله وأحكامه وقضائه، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، ففي هديه صلى الله عليه ) "
وسلم في قراءة القرآن، واستماعه وتحسين صوته، وخشوعه، وبكائه عند قراءته، فكان نعم المثال ونعم القدوة
الحسنة.
وآان له صلى الله عليه وسلم حِزب يقرؤه، ولا يُخِلُّ به، وآانت قراءتُه ترتيلاً لا هذّاً (غير سريعة) ولا
عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً، وآان يُقَطِّع قراءته آية آية ( 31 )، وآان يقرأ القراَن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً
ومتوضئاً، ومُحْدِثاً، وآان صلى الله عليه وسلم يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً آما رجَّع يوم الفتح في قراءته
.( "إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً" ( 32
وإذا جمعنا تلك الأحاديثَ إلى قوله: "زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم"، وقوله:"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن"،
وقوله:"ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، آأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْان"، يتضح أن هذا الترجيعَ منه صلى الله عليه
وسلم، آان اختياراً لا اضطراراً لهزِّ الناقة له، وإذا آان الغرض لأجل هزِّ الناقة، لما آان داخلاً تحت الاختيار،
فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختياراً لِيُؤتسى به، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوتُه، ثم يقول:
آان يُرجِّعُ في قراءته، فنسب التَّرجيع إلى فعله، ولو آان مِن هزِّ الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً.
ومن خصاله الحميدة في هذا الميدان، أنه آان صلى الله عليه وسلم يُحبُّ أن يسمع القراَنَ مرتلاً مِن
غيره، فطلب يوماً من عبد اللّه بن مسعود، فقرأ عليه وهو يستمع، وخَشَع صلى الله عليه وسلم لسماع القران
بصوت ابن مسعود، حتى ذرفت عيناه، وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك، قال: لوْ
آنتُ أعلم أنك تسمعه، لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيراً، أي: حسَّنته وزيَّنته بصوتي تزييناً حزيناً.
وعن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنه آان يقول لأبي موسى: ذآِّرنا ربَّنا، فيقرأ
.( أبو موسى ويتلاحن، فبكى عمر ( رض ) وقال: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غِناء أبي موسى، فليفعل ( 33
لا يقتصر الأداء بالتحزن على قراءة القرآن الكريم، بل هو سمة مشترآة ترافق قراءة الكتب السماوية
آافة، ولكن لكل آتاب أسلوبه الذي يتميز به، فلقد آانت لنبيِّ اللّه داود (ع) مِعزَفَةٌ يتغنَّى عليها يَبكي ويُبكي، يقال:
"إنه آان يقرأ الزبور بسبعين لحناً، تكون فيهن، ويقرأ قراءة يَطْرَبُ منها الجموعُ "، وقد جاء في الكافي؛ عن
عبدالله بن سنان: أن الله عز وجل أوصى النبي عيسى بن عمران "وإذا قرأت التوراة فأسمعنها بصوت
.( حزين" ( 34
إن فكرة التحزن التي نتناولها في هذه الدراسة، وتعاملنا معها على أساس مفهوم التراجيديا بوصفها فعلاً
درامياً وليس فعلاً بكائياً، فهي أفضل مثال على الشجن الإنساني الراقي الذي يتفاعل به الإنسان مع نص سماوي
رفيع المنزلة وواجب التطبيق آالقرآن الكريم.
وما الطابع الحزين الذي ينطوي عليه أسلوب الترتيل القرآني إلا واحداً من أهم الصفات التي تمتاز بها
طرائق القراءات القرآنية بشكل عام والتي ينبع منها أسلوب أدائي ينسجم مع مكانة آلام الله سبحانه وتعالى بكل
ما يحمله من موعظة ربانية؛ يمكن أن يتعظ بها المؤمن عند معرفته بمضمون السور القرآنية المليئة بالعبر
المستنبطة من تجارب الأمم السابقة.